قضايا مجتمعية

تأثير الفلاتر على صورتنا الذّاتية

تأثير الفلاتر على صورتنا الذّاتية

في حين قد تبدو هذه اللّمسات مفيدة في البداية في عالم وسائل التّواصل الاجتماعي، أصبحت الوجوه المصمّمة بدقّة متشابهة. وانقضت أيّام اللّقطات البسيطة الّتي تلتقط الصّورة الحقيقيّة، وبدلاً منها، باتت الفلاتر تدير شخصيّاتنا الالكترونيّة، وتحوّل الصّور إلى تماثيل فنيّة.

كيف تكسر ضغطة زرّ مرآتنا الدّاخليّة؟

تعمل هذه الفلاتر على تنعيم البشرة، ونحت الملامح، وتكبير العيون بإغراء يُليق بشخصيّات الأنمي. مجرّد متعة غير ضارّة، إلّا أنّ تأثيرها يتجاوز الأفق، ويغوص في عالم مرآتنا الدّاخليّة. وقد يؤدّي الاستخدام المستمر لهذه التّحسينات إلى إضاعة الخطّ الفاصل بين الواقع و المثاليّات الوهميّة، مما يؤثّر على كيفيّة رؤية الآخرين لنا، ولكن الأهم من ذلك، على تشكيل نظرتنا لأنفسنا. وتصبح الفلاتر حاجبًا يغيّر بمهارةٍ الانعكاسَ الّذي نراه في مرايانا الافتراضيّة، مما قد يدمّر هويّتنا ويعزّز معايير جمال غير واقعيّة. وبينما نغرق في هذا العالم من الكمال الافتراضي، يصبح من الضّروري توجيه التّوازن بين التّعبير عن الذّات والحفاظ على القيمة الذّاتيّة الحقيقيّة، مع إدراك أن جوهرنا الحقيقي يكمن وراء هذه التّحسينات الالكترونيّة.

الكمال الزّائف

يُعتبر عالم وسائل التّواصل الاجتماعي مسرحًا واسعًا يغوص في أضواء خوارزميّات وإعجابات متغيّرة باستمرار، ويزدهر على وهم “الكمال الزّائف”. فتحكُم صور السّيلفي الخالية من العيوب عالمنا الرّقمي، وتسيطر على صفحاتنا، وتعزّز معيارًا مستحيلًا للجمال، وواقعًا “انستجراميًّا” خالٍ من الشّوائب وبعيد المنال عن شكلنا الطّبيعي. وتكشف الأبحاث الّتي أجراها خبراء مثل الدّكتورة Pamela K. Keel صورة مقلقة، حيث تُظهر أنّ التّعرض المتكرّر لهذه الصّور المعدّلة يمكن أن يؤدّي إلى تدمير رضا الشّخص عن مظهره الجسدي، ويشعل نار القلق الاجتماعي، وفي الحالات القصوى، يتجّلى في اضطّراب تشوّه الجسم (Body Dysmorphic Disorder).

إقرأ أيضا:مخاطر المخدرات الرقمية

يحول هذا المرض النّفسي العيوب المتصوّرة إلى هوس يستهلك طاقة الشّخص المصاب به بأكملها، ويطمس الخطّ الفاصل بين الواقع وبين مثاليّات مصنوعة بالفوتوشوب، يروّج لها مواقع التواصل الاجتماعي. إنّ العواقب ملموسة، حيث تدفع الأفراد إلى سعيٍ قاسٍ وراء سرابٍ جماليّ، ممّا يفاقم الهوة بين شخصيّاتهم الرّقمية المُعدّلة وانعكاساتهم الطّبيعيّة في مرآة الحمّام الّتي يقفون أمامها كلّ يوم. وتزداد هذه الهوة اتّساعًا، فتُبرز التّباين بين الواجهة المُبرمجة وصورتنا الأصليّة غير المُزخرفة.

قناع الثّقة: سلاح ذو حدّين

بينما يرتدي البعض قناع الفلاتر لإخفاء العيوب الملحوظة، يجدها البعض الآخر أداة تمكين. لمسة من الخدود الورديّة يمكن أن تعزّز الثّقة لدى بعض الأشخاص، وفلتر الجرو اللّطيف قد يكون مثيرًا للضحك، والوهم ببشرة خالية من الشّوائب يمكن أن يوفّر درعًا مؤقّتًا ضدّ الضّغوط الاجتماعيّة. ومع ذلك، فإنّ هذا الاعتماد على التّحسينات الرّقميّة يمكن أن يخلق إحساسًا هشًّا بقيمة الذّات، بسبب ارتباطه برغبة الشّخص في الحصول على تأكيد أو اعتراف من الآخرين بجاذبيّته وجماله، والإعجابات الالكترونيّة العابرة. وفي اللّحظة الّتي يختفي فيها الفلتر، يمكن أن يبدو التّباين الكبير بين شخصيّتنا على الإنترنت وشكلنا الطّبيعي صادمًا، ممّا يؤدّي إلى الإحباط وحتّى الاكتئاب. إنّه مثل الاعتماد على ملابس تنكريّة لزيادة الثّقة، فتتركنا عُرضة للكسر والخيبة بمجرّد خلعها.

إقرأ أيضا:لماذا يعد التنمر الإلكتروني ضارا للغاية بالصحة العقلية للمراهقين؟

ما وراء معايير الجمال

لا تقتصر تأثيرات الفلاتر على إعادة تشكيل الوجوه فحسب، بل تلقي عدسة مشوِّهة على عالمنا بأسره. إنّها تعيد تعريف النّجاح كصورة عطلة مرحة بلا مشاكل، وطبق فطور فخم، وتجمّع عائليّ مليء بالضّحك المصطنع. تصبح هذه اللّقطات المرتّبة بعناية، والمصمّمة بدقّة لاستحضار الغيرة وجمع الإعجابات، معايير نقيس عليها حياة الفوضى والاستنساخ. فيتسلّل الضّغط لتكرار هذه المُثل الرّقميّة إلى جوهر وجودنا، ما يدفعنا لإعطاء الأولويّة للعرض على حساب الأصالة، وصياغة هويّاتنا الافتراضيّة الّتي لا تشبه كثيرًا حقيقتنا الواقعيّة. فنُهْلَكُ في سبيل السّعي للحظة مثاليّة، وصورة السّيلفي المتقنة، والمنشورات الّتي تصرخ “انظروا إلى حياتي المثاليّة”.

في هذا السّعي وراء الحلم الوهميّ، تفقد التّجارب الحقيقيّة بريقها، ويصبح الضّعف عيبًا، والرّوابط العميقة تذبل في ظلّ الكمال البارد المصطنع. فالمأساة الحقيقيّة للفلاتر ليست فقط فقدان الثّقة بالنّفس؛ بل هي موت الاتّصال الإنسانيّ الحقيقيّ، والتّضحية بأصالتنا المليئة بالفوضى والجمال الطّبيعي أمام الفكرة المثاليّة المرسومة بالبكسل.

التّحرر من الأوهام الافتراضيّة واستعادة الهويّة

إذاً، كيف نبحر في هذا الواقع الافتراضيّ ونعزّز رؤية صحيّة لذاتنا؟

  1. زرع الوعي: الخطوة الأولى في التّنقل في أرض واقع الفلاتر تتطّلب تنمية الوعي الذّاتي. عليك أن تدرك القوّة التّحويليّة للفلاتر في بناء واجهة زائفة، فهي قناع الكتروني يُصنع بعناية ليخفي في كثير من الأحيان الشّكل الحقيقيّ.
  1. تقبّل العيوب: عليك اكتساب القدرة على تقدير جمالك الفريد، بما في ذلك العيوب. افهم أن الجمال الحقيقيّ يتجاوز المظهر الخارجيّ الخالي من العيوب، وأن جوهر التّفرد يكمن في احتضان السّمات المميّزة والاحتفاء بها والّتي تجعلك فريدًا من نوعك.
  1. تنويع المحتوى: انتقِ محتواك على وسائل التّواصل الاجتماعي بعناية ليعكس طيفًا أوسع من المظاهر. اتّبع حسابات تشجّع على الإيجابيّة تجاه الجسم وتحتفي بالتّنوع. فمن خلال رؤية التّنوع الطّبيعي، تُسهم في تحطيم معايير الجمال الضّيّقة وتوسيع تقديرك لأشكال الجمال المتنوّعة.
  1. الانفصال عن المقاييس الافتراضيّة: الأهمّ أن تفصل بين قيمتك الذّاتية والمقاييس الافتراضيّة مثل الإعجابات على الإنترنت أو عدد القلوب الّتي قد تحصل عليها صورة سيلفي مفلترة. ذكّر نفسك بأنّ قيمتك الحقيقيّة مرتبطة بتفرّدك، ومواهبك المميّزة، وثروة التّجارب الّتي تشكّل هويّتك.

مستقبل الواقع المفلتر

يتبدّل المشهد الرّقميّ لوسائل التّواصل الاجتماعي باستمرار، وعلى الأرجح سيستمرّ استخدام الفلاتر. ولكن، من خلال فهم تأثيرها واتّخاذ خيارات واعية بشأن كيفيّة استخدامها، يمكننا استعادة السّيطرة على حياتنا الخاصّة. علينا احتضان الضّعف والطّبيعة، والتّذكر أن الجمال الحقيقيّ لا يكمن في الصّورة المعدّلة، بل في النّسيج الفريد لحقيقتنا. تخيّلوا عالمًا تضيف فيه الفلاتر إحساسنا بذواتنا، لا تحدّده، وحيث يسود قبول الذّات بصدق على الواجهات الالكترونيّة المصمّمة بدقّة.

إقرأ أيضا:لماذا يعد التنمر الإلكتروني ضارا للغاية بالصحة العقلية للمراهقين؟
السابق
الغوص في أعماق الدّماغ البشريّ والوعي
التالي
التّليُّف الكيسي – الأعراض الأسباب التشخيص والعلاج